محسن خيير
في قلب مدينة قصبة تادلة، وعلى ضفاف نهر أم الربيع الذي لطالما ارتوى بمجد التاريخ، تقف القصبة الإسماعيلية شاهدة على عصور من القوة والازدهار. هذا الصرح التاريخي، الذي شُيد ليحمي المنطقة ويوحد البلاد في عهد السلطان المولى إسماعيل، أصبح اليوم مجرد أطلال تستصرخ الضمائر. فمن ينقذ هذا التراث الذي يذوب بصمت؟ ومن يتحمل مسؤولية هذا الجرم الثقافي الذي يُرتكب في حق التاريخ والمستقبل؟
القصبة الإسماعيلية ليست مجرد بناية أو جدران شاهقة، بل هي عنوان للهوية المغربية، ومرآة لماضٍ عريق. شُيدت في القرن السابع عشر ضمن مشروع المولى إسماعيل لتوحيد المغرب تحت راية الدولة العلوية، وحملت بين أسوارها قصصًا لا تحصى عن النضال والهيبة. كانت القصبة قلبًا نابضًا: مركزًا عسكريًا، مقرًا إداريًا، وملاذًا دينيًا يضم مسجدين احتفى بهما المغاربة لعقود طويلة.
ومع ذلك، تتلاشى هذه الذاكرة اليوم كما تتلاشى الحجارة المتآكلة. فالقصبة تفقد كل يوم جزءًا من مكوناتها بسبب الإهمال، والعوامل الطبيعية، والأيادي العابثة التي وجدت في غياب الحراسة فرصة مثالية لطمس هذا المعلم. ما يحدث ليس مجرد إهمال، بل هو تواطؤ صامت في جريمة اغتيال هذا التراث.
القصبة الإسماعيلية ليست مجرد مبنى قديم، بل هي رمز عبقري لمعمار عسكري متقدم. بأسوارها التي وصفها القس الفرنسي شارل دوفوكو في 1883 بأنها “أعجوبة دفاعية”، وأبراجها التي كانت تحمي المدينة، وقنطرتها التي ربطت بين ضفتي نهر أم الربيع، كانت القصبة معقلًا منيعًا ومركزًا استراتيجيًا يُحسب له ألف حساب.
لكن اليوم، يتحول هذا الإرث إلى أكوام من الأحجار المهملة. فرغم تصنيفها كتراث وطني منذ أكثر من قرن، ورغم الترميم المحدود الذي شهدته بعض أجزائها في 2011، فإن القصبة لا تزال تعاني من غياب رؤية شاملة تحافظ على ما تبقى منها. القصر السلطاني، المخازن، الأبواب، والمساجد، كلها تئن تحت وطأة الزمن والإهمال، فإلى متى تستمر هذه المأساة؟
لا يمكننا الحديث عن ترميم التراث دون توجيه السؤال: أين هي الجهات الوصية؟ أين وزارة الثقافة؟ أين الجماعات المحلية؟ بل أين المجتمع المدني؟ إن صمت الجميع أمام هذا النزيف الثقافي يُعتبر شريكًا في الجريمة. كيف يمكن أن تظل معلمة بهذا الحجم بلا حراسة، عرضة للسرقة والتخريب؟ كيف يمكن أن تستمر الجهات المسؤولة في تجاهل معلم يمكن أن يكون رافدًا اقتصاديًا وسياحيًا للمدينة بأكملها؟
ترميم القصبة الإسماعيلية ليس رفاهية، بل ضرورة ملحة. إنقاذ هذا المعلم يمكن أن يحوّله إلى مركز سياحي وثقافي يعود بالنفع على سكان المنطقة، خاصة في ظل موقعه الاستراتيجي بين شمال المغرب وجنوبه. لماذا لا يتم تحويل القصبة إلى متحف وطني يروي قصص أمجاد المغرب؟ لماذا لا تُستغل هذه المعلمة في تعزيز السياحة الثقافية التي باتت اليوم من أهم ركائز الاقتصاد العالمي؟
من الضروري اليوم، وليس غدًا، تفعيل قانون 22-80 الخاص بحماية المباني التاريخية. كما أن الأمر يتطلب إطلاق مشروع وطني متكامل لترميم القصبة الإسماعيلية وصيانتها، وإحداث حراسة دائمة لها، مع إشراك المجتمع المحلي في عملية الترميم، لتعزيز الوعي بأهميتها وضمان استدامة المشروع.
إن السكوت عن وضع القصبة الإسماعيلية هو خيانة للتاريخ والمستقبل. كل يوم يمر دون تحرك، هو يوم نفقد فيه جزءًا من هويتنا. على المسؤولين أن يستشعروا خطورة الموقف، وأن يتحركوا لإنقاذ هذه الجوهرة قبل أن تتحول إلى ذكرى تُروى بحسرة.
أليس من المخجل أن تضيع معلمة تاريخية بهذا الحجم، في الوقت الذي تحتفي فيه دول أخرى بمعالم أقل أهمية وتجعل منها مقصدًا عالميًا؟
إن مدينة تادلة وسكانها يستحقون أن يروا تراثهم محفوظًا ومُكرمًا. القصبة الإسماعيلية ليست ملكًا لجيل واحد، بل هي ملك لجميع المغاربة، وللتاريخ. فمتى نرى بداية النهاية لهذا الإهمال؟