يبدو أن محمد مبدع، الوزير السابق المتهم باختلاس وتبديد أموال عمومية، ليس مستعدًا لمواجهة اتهاماته بصمت الرجل الذي اعتاد على تسيير الأمور من أعلى المناصب لم يأتِ ليقف وحده في قفص الاتهام، بل قرر أن يجُرّ معه أسماء كبيرة، محوّلاً محاكمته إلى محاكمة لمنظومة بأكملها. السؤال الذي يطرح نفسه هنا: هل نية مبدع حقيقية في فضح شبكة فساد واسعة، أم أنه يلعب آخر أوراقه السياسية وفق مقولة “عليّ وعلى أعدائي”؟
في الجلسة الأخيرة، فاجأ دفاع مبدع الجميع بطلب استدعاء الولاة السابقين للجهة المتهمة، وهو ما بدا كمحاولة لتوسيع دائرة المسؤولية أو تقاسمها مع أطراف أخرى. لكن التطور الأبرز كان عندما طالب دفاع احد المتهمين إلى جانبه باستدعاء وزيري الداخلية السابقين، محمد حصاد وشكيب بنموسى. هذه الخطوة لم تكن مجرد تكتيك دفاعي عادي، بل أثارت تساؤلات كبيرة: هل يريد مبدع فعلاً كشف المستور، أم أنه يستخدم هذه الورقة كورقة ضغط سياسية وقضائية؟
هذا المشهد يذكرنا بالمقولة الشهيرة: “عوال يفركع الرمانة”، وهو ما يفعله مبدع الآن. بدل أن يبقى وحيدًا في مواجهة الاتهامات، يحاول توسيع دائرة المساءلة لتشمل شخصيات نافذة في الدولة. فإذا كانت المحكمة ستُحقق في إدارة المال العام، فلماذا لا تشمل المحاسبة من كانوا في قمة هرم القرار؟ هذا السؤال، الذي قد يبدو منطقيًا، يخفي وراءه حسابات سياسية معقدة، حيث قد يكون مبدع ببساطة يحاول الضغط على أطراف في السلطة إما لوقف ملاحقته أو لتخفيف التهم الموجهة إليه.
لكن هل يمكن أن تؤدي هذه الاستراتيجية إلى زلزال سياسي حقيقي؟ أم أنها مجرد لعبة استعراضية ستنتهي بتسوية ما؟ إذا قررت المحكمة المضي في هذا الاتجاه، فقد يكشف التحقيق عن شبكة واسعة من المصالح المتداخلة التي ظلت لسنوات تدير المال العام بطرق غير شفافة. وإذا كانت هذه الخطوة مجرد تهديد، فمن المحتمل أن نشهد مناورات سياسية خلف الكواليس لإنهاء الملف بأقل الأضرار الممكنة.
سواء كان مبدع يسعى لكشف الحقيقة أو يحاول النجاة بنفسه، فإنه نجح في تحويل قضيته إلى واحدة من أكثر الملفات إثارة. هو اليوم أشبه بمايسترو يعزف على أوتار الفوضى، يوجّه الأنظار مرة نحو الولاة ومرة نحو الوزراء، وكأنه يقول: “و الله لا طحت وحدي”. هذه الاستراتيجية، التي قد تبدو ذكية، قد تكون سلاحًا ذا حدين: إما أن تنقلب عليه وتفتح جبهات جديدة، أو أنها ستُعطيه بعض الوقت لتخفيف حدة التهم.
لكن بغض النظر عن النتيجة، تبقى هذه المحاكمة درسًا قاسيًا عن هشاشة منظومة الحكامة في البلاد، حيث لا يظهر الفساد إلا عندما ينهار أحد أركانه، وحيث تُفتح الملفات ليس من باب الإصلاح، بل كرد فعل على تصفية حسابات بين الأجنحة المختلفة.
في النهاية، سواء كان مبدع “باغي يفركع الرمانة” لكشف الحقيقة أو فقط للنجاة بنفسه، فإن الأهم ليس ما يفعله هو، بل كيف ستتعامل الدولة مع هذه الأزمة. فإما أن تستغل الفرصة لتنظيف المشهد السياسي من الفساد، أو أنها ستكتفي بحصر الأضرار وإغلاق الملفات كما حدث في قضايا سابقة.