أصدر الدكتور محمد الناصري الأستاذ الجامعي بكلية الآداب والعلوم الإنسانية ببني ملال، كتابا تحت عنوان “في نقد مقولات التطرف الديني”، وهو إصدار جاء ليساهم في النقاش الذي تعرفه ظاهرة ” التطرف الديني”.
وفيما يلي مقتطف من مقدمة الكتاب :
“على مدى ربع قرن من الزمان، ومنذ أحداث الحادي عشر من سبتمبر 2001؛ انشغل العديد من الباحثين، والمؤسسات الفكرية في مختلف أنحاء العالم بدراسة، وتفسير الأسباب الكامنة خلف ظاهرة التطرف الديني خصوصا في المجتمعات المسلمة؛ وقد هيمن على مجمل هذه الدراسات أنساق معرفية حداثية، توظف المنهجيات السلوكية، والنظريات التفكيكية التي اعتاد عليها العقل الغربي وامتداداته في العالم الثالث، والتي تركز بالأساس على تحليل السياقات الاجتماعية والتاريخية للظواهر، وتتعامل مع الأبعاد الخارجية لظاهرة التطرف، وتقارب الظاهرة الدينية بمقاربة تنزع القداسة عن الدين Disenchantment of Religion وتعامله كمنتج بشري يخضع للمتغيرات الاجتماعية. هذه المقاربات جاء جلها إن لم يكن من خارج المرجعية الإسلامية، وبعيدا عن النسق المعرفي الإسلامي Islamic Paradigm، وقام بها باحثون متخصصون في الظواهر السياسية ذات الطابع الديني، ويفتقدون إلى العمق المعرفي في الدراسات الإسلامية سواء التراثية أو المعاصرة.
كانت المحصلة النهائية لهذه الدراسات نقد ظاهرة التطرف الديني، وليس نقضها. أي تحولت تلك الدراسات إلى نوع من الملاسنة العقائدية Traités Polémique تهدف إلى لعن ظاهرة التطرف الديني من خلال بيان سوءاتها وقبحها وفسادها، وإقناع القارئ أن تلك الظاهرة مرض اجتماعي خطير. ولكن لم تضع تلك الدراسات اليد على أسباب ذلك المرض، ولذلك لم تنجح في تقديم العلاج. وذلك لان جل تلك المقاربات إن لم يكن كلها جاءت من خلفيات خارج إطار النسق المعرفي الإسلامي، ومن أرضية علمانية لا تريد المزج بين الشريعة ومصادرها، ومدارسها الفكرية، وبين ظاهرة التطرف، بل كانت معظم هذه الدراسات تبطن أن الطريق الوحيد للتخلص من التطرف الديني هو الفصل القاطع بين الدين والحياة، أوبين الدين والفكر، أو بين الدين والثقافة.
وهنا تأتي أهمية هذا الكتاب الموسوم ب “في نقد مقولات التطرف الديني” للدكتور محمد الناصري، أستاذ التعليم العالي والباحث المغربي المتميز الذي وضع اليد على الجذور الحقيقية لهذه الظاهرة. وتعتبر هذه الدراسة فاتحة لمجال جديد من البحث في ظواهر التطرف الديني بكل أشكاله وخلفياته المذهبية، وتمظهراته الحركية، ومسميات جماعاته، هذا الباب يقود إلى مناقشة الجذور الفكرية لهذه الظاهرة التي شكلت الوعي الجمعي للحركات الإسلامية المعاصرة، بل وصنعت العقل الجمعي للمجتمعات المسلمة حتى تلك التي تنبذ التطرف لطبيعة ثقافاتها المسالمة، أو للتكوينة النفسية لأفرادها…”
مقتطف من تقديم الأستاذ الدكتور محمد نصر عارف، أستاذ العلوم السياسية بجامعة القاهرة، الأستاذ الزائر بجامعة سانت أندروز بالمملكة المتحدة، بريطانيا.فمما لا شك فيه أن التطرف الديني أحد أخطر منابع اللاتسامح والعنف والإرهاب، لسرعة تأثر الناس به، بسبب قوة توظيفه للنص الديني وحسن استثماره للمقدس وتستره تحت غطاء الشرعية الدينية من جهاد في سبيل الله ووجوب نصرة المستضعفين ورفع الظلم عنهم، وأمر بالمعروف ونهي عن المنكر.
المشكلة أن الكثير من الباحثين والمفكرين يقاربون التطرف الديني بمنظورات سياسية أو اقتصادية أو اجتماعية؛ ظانين أن الأسباب الحقيقية وراء انتشار أعمال العنف والتطرف والإرهاب تعود لأشكال القهر والتسلط السياسيين أو للركود والأزمة الاقتصاديين أو للمشاكل الاجتماعية التي باتت المجتمعات الإسلامية مرتعا لها، في غياب شبه تام للمقاربة المعرفية القاضية بمحاولة التعرف على المنظومة المفاهيمية والتأويلية التي تنتج التطرف والعنف وتقويمها في الفضاء الإسلامي. إن غياب مقاربة من هذا النوع مكنت قوى الاحتجاج الديني من إنشاء إيديولوجيا جهادية ذات طبيعة “خلاصية” تهدف إلى استعادة صفاء المجتمع المسلم أولا والعالم تاليا من الشرك والكفر.
نعتقد أن جذور مشكلة التطرف الديني في عمقها فكرية، ولما كانت كذلك؛ فليس أمام المسلمين من خيار للحد من ثقافة الموت والاحتراب والعنف… سوى العودة إلى الذات لمراجعتها ونقدها، والوقوف على مواطن الخلل فيها لتقويمها ومعالجتها. تم بناء قيم أخلاقية ليست بغريبة عن الذات، قيم تستبعد الكراهية والحقد، وتنفتح على قيم إنسانية ودينية.
الأمر -إذا- يتعلق بضرورة تدشين مراجعات ذات منطلقات منهجية معرفية شاملة، لتراثنا لرصد سائر تلك الأفكار السامة والمريضة، وتمييزها عن السليم الصحيح من تراثنا، لئلا تستمر تلك الأفكار السامة في الفتك بالسليم الصحيح من تراثنا وتستمر حالة التردي، فذلك هو الذي سيعين العقل المسلم، ولو بعد حين على تجاوز الحالة الراهنة والخروج من أزمته الفكرية الموروثة والمعاصرة، وإعادة تشكيله بحيث يعود عقلا متألقا كما كان.
في هذا الكتاب نستكمل مشروعنا البحثي الذي بدأناه منذ سنوات في كتاب «العلاقة مع الأخر في ضوء الأخلاق القرآنية» صدرت طبعته الأولى، عن دار الهادي، بيروت، 2009م ، تابعناه بكتاب ثان بعنوان «ثقافة السلام بين التأصيل والتحصيل» صدرت طبعته الأولى، عن وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية، الكويت 2013م ، وبكتاب ثالث بعنوان «مسألة الآخر في الفكر الإسلامي المعاصر» صدرت طبعته الأولى، عن مكتبة الإسكندرية، مصر 2015م ، وتعزز هذا المشروع بكتاب رابع في جزأين صدرت طبعته الأولى، عن مكتبة دار الأمان، الرباط 2023م ، الجزء الأول من تقديم الأستاذ الدكتور رضوان السيد، والجزء الثاني من تقديم الأستاذ الدكتور زكي الميلاد. تناولنا فيه مفاهيم عديدة بالدراسة والتحليل والمناقشة. وإذ تشكل المقاربة المعرفية لإشكالية العلاقة مع الآخر المخالف في الدين والنقيض في العقيدة محور هذه الكتب، فهي لا تكتفي بتناولها على خلفية العرض والتحليل النظري، بل تعمد إلى النقد والتفكيك للأدبيات العلمية التراثية والمعاصرة التي تناولتها، وذلك ضمن محاولة لاستيعاب وتجاوز ذلك الإنتاج الضخم وأطره المرجعية ومفاتيحه النظرية لتحليل كل الأبعاد المتعلقة بإشكالية العلاقة مع الآخر وما تطرحه على العقل العربي والإسلامي من تحديات…أما وقد اكتمل الكتاب بحمد الله وفضله، فإننا لا نزعم لأنفسنا الاجتهاد أبدا، ولا نسعى إلى مرتبته، أو أن يكون اسمنا إلى جانب أصحابه، ولكننا نعتقد أننا من الدارسين للخطاب الشرعي والمهتمين بموضوعاته منذ أكثر من عقدين من الزمن، وقد جاءت أبحاث هذا الكتاب نتاجا لهذه السنين من المعرفة. فإذا أحسنا النظر فيها، فهذا طموحنا، وإن خالفنا الصواب أو أخطأنا فعذرنا حسن القصد، وأننا بذلنا غاية جهدنا، في إثارة قضايا تستحق النظر، لتعلقها بالعقل العربي والإسلامي، ولا بد من إبداء الرأي فيها تجديدا لهذا العقل وإيقاظا له. والشكر لله عز وجل في البدء والختام.”
مقتطف من مقدمة الكتاب