محسن خيير
في قلب المغرب، حيث تقع بني ملال بين الجبال الخضراء وسهول تادلة الخصبة، تُطوى فصول يومية صامتة من المعاناة. مدينةٌ جميلة تحولت تدريجيًا إلى فضاء مفتوح للمتشردين، و”سجن بلا حراس” للفئات الهشة التي لفظتها مدن أخرى. واقعٌ مُقلق يتجدد في صمت، ويضع أكثر من علامة استفهام حول سياساتنا الاجتماعية والإنسانية، بل ويطرح تساؤلات حارقة عن دور المسؤولين المحليين والجهويين، وعن موقع المجتمع المدني وسط هذا الانهيار القيمي والإنساني.
ففي كل مرة، تصل حافلات إلى المدينة في جنح الظلام، محمّلة بأشخاص يعيشون خارج المنظومة، بعضهم مغاربة بلا مأوى، وبعضهم مهاجرون في وضع غير قانوني. يُنزَّلون عند أبواب المحطة الطرقية، ويُتركون لمصيرهم في الشوارع والأزقة وحدائق المدينة، دون أدنى تدخل من الجهات المعنية، وكأن المدينة أصبحت مكبًا وطنيا للتخلي عن الإنسان حين يفقد قيمته الاقتصادية.
هذه الظاهرة لم تعد مجرد مشهد إنساني مؤلم، بل أصبحت خطرًا أمنيًا متزايدًا. فالمدينة التي كانت تُعرف بهدوئها بدأت تفقد شعورها بالأمان. والمواطن الذي كان يتجول ليلاً بثقة، صار يتحسس خطواته في كل زقاق.
ورغم أن الدولة خصصت ملايين الدراهم ضمن برامج كبرى لمحاربة الهشاشة، فإن نتائج تلك المبادرات لم تصل بعد إلى أرصفة بني ملال، حيث ينام الشيوخ والمختلون عقليًا والمُدمنون جنبًا إلى جنب، تحت نوافذ المستشفى الجهوي وفي مواقف الحافلات، بانتظار شتاء جديد قد يكون الأخير لبعضهم.
في المقابل، مدن كإنزكان والرباط قدمت نماذج ناجحة للتعامل مع هذه الفئة، عبر مراكز استقبال دائمة، وخطط ميدانية لإعادة الإدماج، وبرامج رعاية نفسية وصحية. فلماذا لا تُعتمد هذه النماذج في بني ملال؟ أليست حياة الإنسان الأولى أولى من جمالية الطرقات وتبليط الأرصفة ؟
فهل سيتدخل والي الجهة، ورئيس المجلس الجهوي؟ ثم، أين هي لجان اليقظة الاجتماعية، والهيئات المنتخبة، والجمعيات التي لطالما تغنت بالدفاع عن الكرامة الإنسانية؟ وهل يكفي أن نُصدم كل مرة بصورة شيخ مريض أو فتاة مختلة على قارعة الطريق، لنُطفئ ضميرنا بتدوينة أو هاشتاغ؟
لقد آن الأوان لتغيير جذري، يبدأ بإحصاء دقيق لعدد المشردين بالجهة، وإطلاق برامج ملموسة تشرك مختلف الفاعلين، وتتبنى مقاربة إنسانية شجاعة لا تقوم على الترحيل أو الإخفاء المؤقت، بل على الإنقاذ والإدماج.
بني ملال لا تستحق هذا المصير. المدينة التي أنجبت طاقات علمية وثقافية ورياضية، والتي ساهمت في بناء مغرب اليوم، تستحق أن تُحترم كرامتها الجماعية. وإننا في هذا المنبر نرفع صوتنا، لا لننتقد فقط، بل لنُذكّر بأن للإنسان في المغرب الحق في الأمن، والكرامة، والرعاية، أينما وجد. فهل من مجيب ؟