إذا كانت الطّرق في بعض البلدان تخضع لمراقبة مختصّة ودقيقة وصارمة قبل ولادتها فتولد سليمة، وتُتَعهّد بعد ذلك بالرّعاية و الصيّانة من باب الوقاية، كما يُعيّن لها من يعالجها بإتقان واحترافيّة لو أصابها ما يعلّها أو يشوّهها، وبذلك تتجنّب الإصابة بالأمراض المستعصيّة؛ فإنّ طُرقنا العموميّة سواء داخل أو خارج المجال الحضري، دخلت بأمراضها مرحلة الزّمانة، و قد حار في أمرها العلماء و الأطبّاء و الخبراء، و قد اختلفوا في تحديد أسبابها، وعجزوا عن وصف العلاج النّهائي لها، حيث أثبتت كلّ المحاولات فشلهم، وكانت تلك الأدويّة والبروتوكولات التي أوصوا بها وباشروا تنفيذها مجرّد مسكّنات يزول مفعولها مع مرور الشّهور وتوالي الفصول. وعلى الرّغم من تغيّر المعالجين و تعدّد المختبرات الشّريكة لم يتحدّد بعد مسبّب هذه الأدواء، و قد تنوّعت التّفسيرات و اختلفت التّعليلات، و تناسلت النّظريات.
فمِن قائل إنّ وراء ذلك (فيروسا) اسمه الغشّ يستقوي و يتكاثر في جسم منهك بالرّشوة ليُصيب البنيات الأساسيّة للطّرق وينخر المواصفات المسطّرة في دفاتر التّحمّلات فيؤثّر على كلّ ما يعترض طريقه، حيث يُحيل الرّملَ إلى تراب و يجعل من الزّفت زيتا ويأكل بعض الأمتار من عرض الطّريق و عدّة كيلومترات من الطول و بعض السنتميترات من سمكها، وإن كانت عين الخبير لا تخطئ علامات هذا المرض في حينه فإنّها لا تبدو واضحة لعامّة النّاس إلّا بعد توالي شهور السّنة حيث تبدأ أعراض المرض في التّطوّر من تلقاء نفسها فترى تشوّهات هنا والتهابات هناك، تتحوّل مع الزّمن إلى تقرّحات و حفر، و قد تُصاب الطّريق حين تُترك دون علاج سيميولوجي بشيخوخة مبكّرة أو بالمارازم أو الهزال الشّديد، و في بعض الأحيان تصاب بالموت الفجائي دون سابق إنذار عند أولّ نزلة إمطار.
و مِن قائل إن السّبب الرّئيسي لهذه العلل المستعصيّة هو تشوّه جيني مُعدي يُجهل تاريخ ظهوره يسمّى متلازمة “التّسَيُّلاَمُبَأنانِيّة” وتعني تزامن الإصابة بالأمراض الفتّاكة الثّلاثة؛ التّسيّب، اللّامبالاة والأنانيّة، وهذه المتلازمة تصيب الكبير والصّغير والغنيّ و الفقير، كما تصيب المسؤول والمواطن والمثقّف و الأمّي، و الغريب في أمرها أنّها مُعدية إلى حدّ كبير و تتنقّل أفقيّا بين النّاس و عموديّا من علية القوم إلى من هم أدنى، أمّا أعراضها فيمكن أن تتمظهر في شكل هشاشة عظام حادّة تترجم إلى كسور وأخاديد في العرض وفي الطّول، حيث يمكن أن تصبح الطّريق، وبعد أن باتت سليمة، تعاني تدخّل أيادي غير خفيّة لأشخاص ذاتيين أو معنويين آثروا المصالح الجزئيّة على العامّة فتفرغ بعضا من أحشائها لتمرّر خطوط الكهرباء أو الهاتف أو تمرّر قنوات الشّرب أو السّقي أو المياه العادمة، وبعد أن تقضي منها وطرا تتركها إلى أجل غير مسمّى، أو في أحسن الأحوال ترمّمها بطريقة عشوائيّة فتخلّف ما يشبه ظهر حمار(DODANE) أو أخدودا يشكّل مصدر عذاب للسيّارة لعشرات السّنين.
وعلى الرّغم من تعدّد الأقوال واختلافها في ما أصاب هذه الطّرق من علّات؛ فإنّ ردّة الفعل الباردة تجاه هذه الصّور واحدة لا يختلف عليها اثنان، ولا ينتطح فيها عنزان؛ إنّها التّطبيع والتّسليم بالأمر الواقع أو على الأقلّ هذا ما يُستشَفّ ويلاحَظ خلال المعيش اليومي؛ وإلّا ما معنى تشييد طريق من طرف الوزارة أو المجلس الجهوي أو الإقليمي أو الجماعة التّرابيّة أو من طرفهم مشتركين، ثمّ تركها عرضة لأيادي لا ترقب فيها إلّا ولا ذمّة؟ فهذا يحفرها ليمرّر أسلاكا معدنيّة أو قنوات ميّاه والآخر يسير عليها بآلياته ذات العجلات الحديديّة المسنّنة، أو يستعملها مجالا لعمل الرّافعات الضّخمة دون احتياط ودون الأخذ بوسائل الوقاية للمحافظة على بنياتها الضعيفة أصلا و التي لن تحتمل أكثر من طاقتها.
وما معنى أن يتمّ هذا السيناريو على مسمع ومرأى من الخاصّ و العام، أمام أعين المواطن والمسؤول، أمام المواطن والمناضل من كلّ الأصناف، و أمام المسؤول المعيّن والمسؤول المنتخب، أمام المسؤول المحلّي و الإقليمي والمركزي وأمام المنتخب المحلّي والمنتخب البرلماني؟ و ما معنى أن يتكرّر ذلك في الزّمان والمكان، ويتمّ جهرة ودون حرج وعلى مدى زمنيّ متوسّط أو طويل كاف لتدارك ما يمكن تداركه، دون أن يحتجّ المحتجّون أو يَستفسر المستفسرون أو يسائِل المسائِلون، و دون أن تسجَّل المخالفات ضدّ المخالفين ويُحكم عليهم بإصلاح ما أفسدوه بطريقة علميّة لا تترك أي أثر وليس بطريقة التّرقيع كيفما تيسّر؟
إنّه التّطبيع مع فعل معتلّ لن يُعتبر أبدا مستقيما، والتّسليم بعرف جرت به العادة في هذا الشّأن حيث التّشييد يليه التّخريب يليه التّرقيع، ولا أدري كيف نعيب على أطفالنا الكتابة على الجدران و تخريب الحدائق وتكسير المصابيح العموميّة ولا نعيب على أنفسنا وعلى بعضنا التّعامل مع الطّرق العموميّة كأنّها ليست مالا عموميّا وليست ملكا لأحد، أو كأنّنا لسنا في حاجة إليها و لا مبرّر أن ندافع عنها ولا أن تُثار غيرتنا عليها.