أتيته فما أدقّنِي وما أجلَّني أي لم يعطني قليلاً ولا كثيرًا، تلكم قصة فيلم “الزين لي فيك” لنبيل عيوش الذي تقدم به أمام لجنة الدعم، ولم يمنحوه لا القليل ولا الكثير، فدق قلبه وخفق وتأثر وانفعل، اضطرب، فزاد جرعة إلى شريطه بشكل مدقوق، أي صيره دقيقا، عملا بقول الشاعر دَقُّوا بَيْنَهُمْ عِطْرَ مَنْشِمٍ : أَيْ أَظْهَرُوا العُيُوبَ وَالعَوْرَاتِ.
رسالة نبيل عيوش، فهم منها وزير الاتصال آنذاك، أن الرجل يدق على بابه ليحدث صوتا، فرد عليه ضمنيا بكتابة “ممنوع الدقان” على باب وزارته، بما معناه أن الوزير يتابع الدقيق من الأمور في المجال الذي يحرسه، وضمنه القاعات السينمائية التي لا يمكن أن تدقها إلا أفلام نظيفة.
وعليه نحمد الله أننا على مستوى جهة بني ملال خنيفرة ، لم نعد نتوفر على قاعات سينمائية، كانت وبارت تجارتها، وأغلقت أبوابها حين دقت ساعة الحساب في زمن القرصنة، من قاعة “كاليبسو” بالفقيه بن صالح إلى “فوكس” و”أطلس” ببني ملال وغيرها بكل من قصبة تادلة وسوق السبت، بناياتها تنتظر أن يدق عنقها ويمحى رسمها واسمها من الذاكرة، على غرار قاعات أخرى بالمملكة، من حسن حظ بعضها أنها تحولت إلى “قيساريات” وليست خربا كتب على ظهرها “ممنوع البول” على غرار عبارة “ممنوع الدقان” التي انقرضت كتابتها على كثير من الأبواب المعلومة في مغربنا الطاهر. وكان ساكنة هذه البيوت يحررون هاتين الكلمتين من صباغة أو جير، ليوقروا في ذهن العابرين أن هذه العائلة محترمة ولا يجب الوقوع في الخطأ. وأحيانا تأخذ العبارة منحا مجازيا يفيد عكس ذلك، ويحفز على طرق أبواب بائعات الهوى، لكن مع أخذ المحاذير في أن يصير الدق دقا يزعج الجيران فيدقَّوا بينهم وبين الزبناء المحترمين إسْفينًا، أي التفريق بينهم عن طريق الوِشاية إلى السلطة، والتي كم دقَّت من مسمار في نعشِ أقدم مهنة في التاريخ دون أن تساعد في هلاكها، وأن تلحق الفشلَ بها. فكم من الأوكار أغلقت لكن الشارع مفتوح للجميع، من قراصنة الأفلام إلى قراصنة الأجساد مرورا بممارسي العهر السياسي والثقافي، وهو أمر جلي لا يحتاج إلى تدقيق المعنى وليس دَقَّ المَعْنى، أي غَمُضَ وخَفِي المرادُ به فلا يفهمه إلاّ الأذكياءُ :- كلامُك يدِقُّ عن الشَّرح والتَّفسير، – دقّتِ المسألةُ فلا يفهمها إلاّ الرَّاسخون في العلم. ويقال دَقَّ الأمْرُ: غَمُضَ وَخَفِيَ مَعْناهُ، يَحْتاجُ فَهْمُهُ إلى دِقَّةٍ وَتَبَصُّرٍ وَإِمْعانٍ.
هكذا الأمر في قرار منع فيلم “الزين لي فيك” من العرض بالقاعات السينمائية، فإلى متى سنظل نخفى عوراتنا ونخشى من افتضاحها بدعوى أن “غسيلنا الوسخ” لا ينبغى أن ينشر على الملإ، ليس هذا هو مربط الفرس، بل مربطه هو كيف نعالج الطابوهات، والجنس واحد منها، دون أن تتحول المسألة إلى “كليشيهات”، تصبح معها المشاهد المقاربة لهذه الموضوعات لا مبرر لها. فالكيفية أو طريقة التناول تفرضها مقتضيات درامية مخصوصة في الزمان والمكان، كما أنها لا تأتي رغبة في الإثارة أو الإدهاش، بل فيما تود إبلاغه على مستوى التواصل الضروري مع الجمهور، لكونها جزء من خطاب حامل للمعنى، تتقصد من خلاله وتروم به إحداث تأثير جمالي ومعرفي وإيديولوجي. فإذا حال دون أن يتحقق هذا الأثر، ولو بالنسبة الضرورية فإن الفرجة تفقد مبررها، وتسقط في المجانية. مجانية ليست عن هوى بل محسوبة ومدققة تجاريا وماليا، والتي تجعل من توابلها الدم أو الجنس، ومن المستحسن وجود كليهما بالمنطق التسويقي للمنتوج، لأن الجنس يستقطب الجمهور، تبعا للعدد من المنتجين ليس في المغرب فحسب، بل في العالم، ولا يهمهم البعد النفسي للقصة وجانبها التشويقي وعمقها الإنساني. وهذه الأمور إن لم تتكشف للإنسان العادي، فيمكن أن يكشفها النقد الفني إذا توفرت له شروط التواصل الإعلامي، وليس شروط إعطاء النقد معجلا من طرف التاجر/ المنتج لناقد لا يبصر إلا الدرهم. أما الأخلاق فلا يمكن أن تدقَّ كدق الوشمَ على قلوب الناس بهكذا قرار، وإلا سهل تطويعهم بعدم القبول بما هو دون الكمال، ولن تحتاج بعض الأسر إلى كتابة ممنوع “الدقان” على أبوابها، وهي الكلمة التي لم نجد لها مقابلا في قاموس المعاني الذي ساعدنا على التدقيق في هذه النازلة بدون خلفيات.
فأنا لست أصوليا ولا حداثيا، أنا ملالي بالفتحة الممدودة وليس بالرفع، حتى لا يقع الخلط بين ملالي من بني ملال وملالي الذي يعني الفقيه في إيران وتركيا وأفغانستان.