يقول أبو نواس في إحدى قصائده :
“إذا راب الحليب فبل عليه *** ولا تحرج، فما في ذلك حوب”
ومعناها أنه يمكنك التبول على الحليب متى راب وأن لا إحراج في ذلك، فما في ذلك حوب، أي لا مشكل، أبو نواس المتمرد في زمانه على حضارة البدو، فكيف يبكي على الطللِ في بيئة لم يعد للطلل أثر بها، هذا المتمرد سيعتبر شعوبيا وزنديقا وماجنا، لأنه ببساطة كان يعد من وجهة نظر الثقافة السائدة في عصره، فاقدا للبوصلة، أي “مدوخ”، بلغتنا الدارجة وجمعها “مداويخ” والتي ستصبح من يوم الناس هذا، حاملة لمرجعية تاريخية من زمننا المغربي، على غرار عام “الجوع” وعام “الحلبة” وعام “السيبة”، كما ستظل مقرونة بحوار بين فضائين، فضاء افتراضي وفضاء واقعي، سمته تمرد الأول على الثاني، عبر خطابات عدة، أغاني ممسرحة، نصوص ساخرة وتهكمية، نكث طريفة، أشكال مهجنة تدمج فيديوهات مع نصوص ولقطات مركبة، هذا طبعا إلى جانب التحليلات والمقالات والتغريدات، أعادت في مجملها موضوع اقتصاد الريع إلى الواجهة، مع التذكير بملابسات الزيادة في أثمان الحليب في العام 2013 ، تحت ذريعة دعم الفلاحين وتخفيض كلفة الإنتاج، والتي قال في شأنها مجلس المنافسة أنها لم تعرف ارتفاعا، خلاصات لم تحرك حولها الحكومة ساكنا، ولم تتحدث عن حجم استفادة الفلاحين من باقي مشتقات الحليب من زبادي وأجبان، أما المحروقات فأثمانها تحررت ولم تتحرر أسرارها بعد، حيث لازالت حبيسة قبة البرلمان، مسيج عليها كما هو حال القانون المنظم لمجلس المنافسة، وإذا كانت هذه حرب المقاطعة موجهة ضد لوبي معين، وبغض النظر عن أهدافها وهل تصب في صالح أوسع الفئات الشعبية، ومدى قدرتها على تحقيق انتصارات في غياب قانون يحمي القدرة الشرائية للمواطنين ويقطع الأصابع التي تمتد خلسة إلى جيوبهم في إطار سياسة الريع، بغض النظر عن كل ذلك، فإن المقاطعة أسهمت في كشف العديد من الأشياء كانت مستورة، وأحرقت صورة بعض الفاعلين الاقتصاديين والسياسيين، وأعادت إلى الواجهة علاقة السلطة بالمال، وكيف استطاع البعض أن ينمي أرباحه من خلال الريع، والأكثر من هذا فإن الحملة جعلت تهمة “المداويخ” ترتد على أصحابها، وبانهم غير قادرين على تمثل تحولات المجتمع المغربي على مستوى القيم، الذي تتراجع فيه قيم الخوف وتعلو قيم الكرامة، والاحترام بدل الطاعة، وغيرها من القيم المرتبطة بحقوق الانسان، وهو ما لم يستطع قراءته أحد من الماسكين بتدبير الشأن العام والمالكين للشركات الكبرى، حيث لا زالوا يعيشون على الماضي وعلى الأطلال، ولهؤلاء نقول على لسان “المديويخ” أبو نواس :
دَعِ الأَطلالَ تَسفيها الجَنوبُ وَتُبلي عَهدَ جِدَّتِها الخُطوبُ
وخَلّ لِراكِبِ الوَجْناءِ أرْضاً تَخُبُّ بها النَّجيبة ُ والنّجيبُ
بلادٌ نَبْتُها عُشَرٌ وطَلْحٌ، وأكثرُ صيْدِها ضَبُعٌ وذيبُ
ولا تأخُذْ عن الأعرابِ لهْواً، ولا عيْشاً فعيشُهُمُ جَديبُ
دَعِ الألبانَ يشْرَبُها رِجالٌ، رقيقُ العيشِ بينهُم غريبُ
إذا رابَ الْحَلِيبُ فبُلْ عليهِ، ولا تُحرَجْ فما في ذاك حُوبُ
فأطْيَبُ منْه صَافِية ٌ شَمُولٌ، يطوفُ بكأسها ساقٍ أديبُ