وُلدت ونشأت أمام عيني وأعين الناس، صحيح أنّ خروجها إلى الوجود تطلّب منها زمنا طويلا وتطلّب منّا صبرا جميلا ولكن؛ كيف لا نصبر على الإزعاج الذي رافق ترعرعها قبل أن تشبّ عن الطّوق وقد صبرنا وعانينا قبل ذلك سنوات العزلة و شظف العيش وعسر الحركة بدونها . تمخض عن طلعتها البهيّة يوم جميل فحقّ علينا أن نتّخذه عيدا كما حقّ علينا أن نتّخذها ولدا نخشى عليه نسيم الصباح ونتألّم حين يصيبها مستصغر الجراح.
إنّ أوّل ما بحثت وسألت وتقصّيت عنه قبل التحاقي بمقرّ العمل غداة تعييني من قبل الوزارة هو وجود طريق معبّد يربط المنطقة التي سأشتغل بها بالمدن والمراكز والقرى المجاورة لها، ثمّ بعد ذلك سألت عن مصدر الماء ومحلّات بيع المواد الغذائيّة وعلى رأسها الخبز وقد أصاب توجّسي عين الحقيقة؛ فلا ماء ولا كهرباء ولا خبز ولا طريق لتيسير اقتناء الحاجيّات الأساسيّة، وفي ظروف مثل هذه يتصرّف السائق خلف مقود سيارته المقاتلة رباعيّة الدفع التي لا يستطيع غيرها ربط شرايين المنطقة بمحيطها الأكثر حضارة، مثل إمبراطور يتربّع فوق كرسيه، كما يبدو خلال الأيّام العصيبة حيث تتقطّع بنا السّبل بسبب المطر مثل بطل الفيلم الذي يطلب الكلّ ودّه ورضاه، فلِتحصل على شرف حجز مقعد أو موطئ قدم في سيّارته للرّحيل نحو العالم الخارجي، وللتفلّت من العزلة بضع ساعات أو بضعة أيّام لابدّ من إخبار مسبق ولابدّ من التسجيل ضمن لائحة المواعيد، ولأنّ مركز صاحبنا يرقى إلى تلك الدّرجة فإنّ الأسفلت الأزرق يرقى إلى درجة الذّهب لأنّه الوحيد الذي سيحرّرنا من احتكار الإمبراطور بدخول سيّارات الأجرة عمليّة النّقل و التنقّل.
استمرّ الحال عل حاله عدّة سنوات قبل تسليك الشّرايين وقبل تعبيد الطّريق وقبل ميلاد الأسفلت الذي استحقّ لقب الذّهب الأزرق واستحقّ منزلة الابن المدلّل إذ كان الوضع عسيرا بعد طول مخاض، وقد طالت قبل ذلك سنوات العقم أكثر من المعتاد المحتمل، هكذا أصبح يصيب بدني قشعريرة كلّما أصاب وجه الأسفلت خدش بفعل بشري أو هدّده حثّ طبيعي، ويصيب قلبي قبل أن يقع على أوصال الطّريق طرق هذه الآلية أو تلك، ولم أعد أستسيغ بعض المشاهد التي تعبّر عن استهانة غير مبرّرة بالذهب الأزرق، بل أصبحت أشرق بأفعال متكرّرة في الزمان والمكان تسيء إلى الأسفلت من أشخاص ذاتيين أو أشخاص اعتباريين يمجّها المنطق والعرف القانون.
فهذا فلّاح امتطى جرّاره في واضحة النّهار ليفلح الطّريق بمحراثه الحديدي الذي يجرّه على وجه الأسفلت مخلّفا ندوبا دائمة تشوّهه كما تشوّه الوشوم وجه فتاة في مقتبل العمر، ومحدثا ضجيجا (على وذنك بن عدّي) يصل إلى آذان من تُنتظر منهم الحركة والفعل والتّغيير، وذلك مواطن حفر أخدودا (على عينك بن عدّي) في عرض الطّريق من أجل مصلحة شخصيّة، فلمّا قضى منها وطرا أهال عليها التّراب وتركها لقدَرها، ليمرّ عليها الخاص والعام لسنوات في انتظار من يرْقِعها، وتلك شركة لا الخير ولا الإحسان يجمعها بالمواطنة ولا غيرهما، كيف لا؟ وهي تعامل الأسفلت بآلياتها الثّقيلة الضّخمة كما يعامل الفيل أوراق الشّجر اليابسة (في حضورك يا بن عدّي)، ويستوي عندها الذّهب الأزرق والتّراب الأحمر، فتحيل حلم قوم يستعملون هذا الطريق تحقّق بعد ليلة كأداء إلى وعثاء سفر تقضّ مضجعهم صباح مساء، حتّى إذا قضت منها وطرا تركتها مثل جلد شاة جرباء لا يصلح أن يكون طبلا ولا شكوة ماء، تلك أمثلة فقط من واقع لا حصر له يدمي في القلب السّويداء.
فهل يكفي أن نتألّم لألم الطّريق، ببرود وفي سكون ودعة؟ وهل يُجدي أن نشكو مآسيه إلى المغلوب على أمره (بن عدّي)؟ أم نشكو إلى من هو أعلى منه مرتبة وأكبر تأثيرا؟
إنّ الطّريق بالنّسبة للمجتمع بمثابة الشّريان بالنّسبة للجسد والأعضاء، ولأن درهم وقاية خير من قنطار علاج، فالحرص على سلامة الطّريق وحراسته من أيادي تحرّكها مصالح أنانيّة مخرّبة، لاستطالة عمره خير من الولولة والنّحيب وتقبّل العزاء فيه بحذاء جثته بعد فوات الأوان.
أليس الطّريق مالا عموميّا تحرسه و تحميه المساطر وتذود عنه العقوبات؟ ألا يعتبر ما سبق ذكره مخالفات، مخوّل لسلطة ما ضبطها وتسجيلها وتبليغها؟ أليس الطّريق مصلحة تهمّ مستعمليها من السكّان المحليّين، وممثّليهم في المجالس الترابيّة، والمجالس التّشريعيّة، ومن يتحدّث باسم مصالحهم من الجمعيّات، قبل أن تهمّ سلطات المركز؟
أليس الأسفلت ذهبا أزرق لا يرى قيمته إلّا من حُرم منه ابتداء أو بعد حين بفعل فاعل وإهمال مسؤول؟ فكيف ننتفض إذن ضدّ موظّف فاسد أو مصلحة معطّلة، ولا ننزعج حين يَلِغُ هذا الشّخص أو تلك الشّركة في جسم الطّريق فيشوّه خلقته أو يرديه صريعا بعدما كانت من حوله تدبّ الحياة؟