رشيد حمري صحفي متدرب
لعل ما يلفت الانتباه ويحمل على الشك في الآونة الأخيرة هو تفاحش ظاهرة السعاية (تطلابت) بالمغرب، فهناك في الشارع رجل كهل يسعى، وهناك في السوق امرأة مع طفليها تسعى، وهناك في الحي طفل لم يعش طفولته بعد يسعى، وهناك في الحي شاب بكامل قواه الجسمانية والعقلية يسعى….، فما الدافع وراء هذا الاقبال المهول على السعاية ؟ وهل فعلا كل ساع محتاج؟ وما أثر السعاية وتكلفتها على سمعة المجتمع والدولة بصفة عامة؟.
إن النابش في جدور السعاية يجد أن لها جدر غارق في القدم وفي عمق التاريخ، وهذا من الأمور التي لسنا بصدد الحديث عنها الآن، فمن الأمور التي يجب التسليم بها، هي أن السبب الرئيس للسعاية هو الاحتياج، الأمر الذي يضفي على الظاهرة نوعا من الشرعية الدينية والمشروعية السياسية، ولكن شريطة أن لا يتحول هذا النشاط إلى مهنة أو حرفة يسعى صاحبها إلى تحصيل أكبر قدر ممكن من المال من ورائها.
الملاحظ في الآونة الاخيرة انتشار ظاهرة اكتراء الأطفال من قبل النساء لاستغلالهم لبلوغ مقاصدهم في استمالة أكبر عدد ممكن من الناس “المحسنين” والتلاعب بمشاعرهم واستهواء عواطفهم، بل ومخاطبة الجانب اللا واعيي بداخلهم، للإشفاق على أولئك الصغار الذين يظن أنهم أبناء تلك النساء فعلا، واللواتي يرددن عبارات ويتقن أكاذيب لا أساس لها من الصحة، من مثل: “أنا مرا هجالة وعندي زوج ولاد… ” و “راجلي مريض خاصو دوا…” ، “ماعنديش باش نخلص الكرا …”. (لقد توفي زوجي وتركني وحيدة أو زوجي مريض ولي خمسة أولاد ولا أستطيع العمل لكوني موغلة في السن وذهب عني الجهد…، فهذه العبارات تتكرر وتتوالى من ساع إلى ساع، ومن سوق إلى آخر.
اختلط الحابل بالنابل وأصبح التفريق بين الساعي (المتسول) الحقيقي والمزيف أمر شبه مستحيل، لدرجة أضحى معها الغالبية العظمى من الناس يمتنعون عن التصدق على أولئك المتسولين لعدم قدرتهم التمييز بين من تجوز الصدقة عليه وبين من تنتفي فيه هذه الصفة.
فإذا كانت الصدقة بمعنى المساعدة، إنسانية، فإنسانيتها لها شروط لا بد من احترامها لكسب عطف الجماهير، أهمها الصدق والأمانة والاحتياج، وإلا ذلك احتيال ومكر وخديعة، وككن إن سألك شاب مكتمل عقلا وجسدا على أن تمنحه مساعدة درهم أو درهمين، فهل ستساعده ؟ وعلى ما ستبني قرارك؟.، حقا إن الأمر صعب الحسم فيه، سواء على الساعي المتسول أو العاطي المتصدق، لذلك نجد أن متسولي هذا النوع يبتكرون أساليب جديدة “للاحتيال” عن الفئة مقصدهم، مثل أن يقول لك مثلا : تقطع بيا الحبل، ماعندش باش نمشي لدارنا، داو لي الشفارة رزقي…، إلى غير ذلك.
إن آفة السعاية لحظت تطورا مهولا لا يبعث إلا على الخوف من تشويه سمعة الدولة أولا، وخلق شعب يعيش على السعاية دون غيرها من الأعمال التي يمكن أن تساعد اجتماعيا وفي سير الدولة إلى الأمام وتحسين صورة المجتمع أمام الشعوب والمجتمعات الأخرى، وهنا يطرح السؤال ألا تستطيع الدولة أن تحقق لهؤلاء المتسولين الحقيقيين نوعا من المأكل والملبس أي المساعدة، في مقابل سن قوانين زجرية لمحاسبة المزيفين المهنيين لهذه الآفة؟؟؟.
تجدر الاشارة إلى أن للتسول أماكن مخصصة له وخاصة به، كالقرب من المساجد أو في أيام الجمعة أو العيد أو رمضان…، ذلك أن المتسولين فرب المساجد يستغلون عطف المصلين الذين يخرجون من المسجد بعد أن أدو الفريضة، وهم حديثي ربط وثاق الايمان مع ربهم، فيرغبون في التكفير عن ذنوبهم، فيستميلونهم بكلمات مؤثرة تدربوا عليها، فلا يشعرون إلا وهم يضعون أيديهم في جيوبهم ليخرجوا قطعة أو قطعتين من النقود فيمدونها للمتسول، ليمنوا بعد ذلك بدعوات تنهال عليهم من كل جانب من مثل ” الله ارضي عليك، الله انقي طريقك من الشوك…، تلك الدعاوي التي تغزو جانبا من عقله وتسيطر على قلبه، وتخلق عنده نوعا من الاطمئنان والراحة النفسية التي سترافقه لأيام.
تلك الكلمات التي تخاطب الجانب اللاواعي أو اللاشعوري في الانسان، هي حقا بمثابة منوم تجعل من الناس ذوات فارغة أو آلات متحكم فيها عن بعد ، لا تعود لها حيويتها إلا بعد أن يبدأ المتصدق عليه الماسك للصدقة بالدعاوي والأدعية التي تصيبه في العمق.