ليس من شك أن الظرفية الصحية التي يمر بها المغرب والمتسمة بالتفشي السريع لفيروس كورونا المستجد و تزامن ذلك مع حلول عيد الأضحى، قد أدت إلى إثارة مجموعة من الإشكاليات المجتمعية لا سيما بعـد القرار الحكومي الصادر مساء يوم الأحد 26 يولـيـوز 2020 و القاضي بمنع التنقل من و إلى 8 مدن ابتداء من منتصف ليلة نفس اليوم، و هي الإشكاليات لتي تعتبر نتيجة منطقية لمحاولة تحقيق معادلة قِـوامُهَا الجمع بين ثالوث فيروس كورونا و عيد الأضحى و المجتمع المغربي بعاداته و تقاليديه، الأمر الذي قد يُنذر بحدوث انتكاسة وبائية في قادم الأيام قد تكون لها آثار اقتصادية و اجتماعية و صحية وخيمة.
هذه الانتكاسة الوبائية المحتملة والتي ظهرت مؤشراتها منذ أيام، لن تكون إلا نتيجة عادية و منطقية لمجموعة من الأسباب المُكَمِلَة لبعضها البعض، إذ يدخل ضمنها سوء التدبير الحكومي لمرحلة ما بعد رفع الحجر الصحي بالإضافة للإصرار غير المبرر على إقامة عيد الأضحى هذه السنة رغم وجود مبررات شرعية وصحية و اقتصادية لإلغائه، ناهيك على أسباب أخرى مرتبطة أساسا بعادات شرائح كبيرة جدا من المجتمع المغربي و تقاليديه و قلة وعيه الجماعي، دون إغفال الدور السلبي الذي لعبه و لا زال يلعبه جزء مهم من الإعلام المرئي والسمعي.
فأما بخصوص سوء التدبير الحكومي لمرحلة ما بعد الرفع التدريجي للحجر الصحي، فقد ظهر ذلك جليا من خلال القرارات الصادرة في أغلب الأحيان في أوقات متأخرة من الليل بواسطة بلاغات لكل قطاع حكومي على حدة ودون حد أدنى من التنسيق بين القطاعات، حيث تمت الدعوة في وقت سابق من طرف وزارة السياحة إلى تشجيع السياحة الداخلية مما دفع ببعض المواطنين و عائلاتهم إلى السفر و حجز غرف بالفنادق ثم بعد ذلك جاء قرار مشترك لوزارتي الداخلية والصحة يتناقض مع الأول تمثل في إغلاق 8 مدن بشكل مباغت هي طنجة و تطوان و الدار البيضاء و سطات و برشيد و مراكش و فاس و مكناس، مما تسبب في هرع مجموعة من المواطنين إلى المحطات الطرقية و محطات القطارات من أجل العودة لمنازلهم بالمدن المذكورة أو الخروج منها بالنسبة لأولئك المتمسكين بقضاء عيد الأضحى لهذه السنة مع عائلاتهم رغم ارتفاع احتمالية نقل العدوى لذويهم بالمناطق و المدن التي تعرف انتشارا قليلا للفيروس التاجي، و هو ما تسبب في وقوع حوادث سير مميتة و أخرى نتج عنها إصابات خطيرة خلال ليلة الأحد 26 يوليوز 2020 بمختلف الطرق السيارة والوطنية، كما تسبب كذلك في خلق اكتظاظ وتجمعات تسهل من انتشار الفيروس على نطاق واسع بالإضافة لظهور أنشطة موازية استغلت هذه الفوضى كظاهرة “الخطافة” و السوق السوداء لبيع التذاكر، لا سيما أن بعض المسافرين يرغبون في نقل كبشهم معهم عبر الحافلة و هو مشهد غني عن أي تعليق يتميز باللاإنسانية و عدم الرأفة بالحيوان باعتباره كائن حي.
وقبل كل هذا و ذاك تم السماح بفتح المقاهي و المطاعم دون احترام جلها لمعايير و ضوابط الوقاية من تفشي عدوى الفيروس التاجي لا سيما في الأحياء الشعبية لأكبر المدن المغربية والتي تضم أغلب الساكنة المعتادة على الاختلاط و التجمعات بسبب أو بدون سبب مما نتج عنه ظهور مجموعة من البؤر العائلية بمدن طنجة و الدار البيضاء و فاس و مراكش.
وما قيل عن البؤر العائلية، يسري كذلك على البؤر المهنية التي هي نتيجة لعدم احترام مجموعة من مسؤولي الوحدات الصناعية و الإنتاجية لسبل الوقاية من انتشار عدوى فيروس كورونا داخل الوحدات المذكورة، وغياب المراقبة و التفتيش، و عدم إيلاء أهمية لظهور أعراض الفيروس على بعض المستخدمين و العمال، مما تسبب في انتشار مهول للفيروش بين عشرات بل مئات العاملين بها كما حدث مؤخرا ببرشيد و طنجة و الدار البيضاء وقبل ذلك بلالة ميمونة و آسفي والعيون.
كــل هذا تزامن مع حلول مرحلة ما قبل عيد الأضحى، والتي تعرف ممارسة أغلب المغاربة لعادات و تقاليد أقل ما يمكن أن يُقال عنها أنها لم تعد صالحة لهذا الزمن لا سيما هذه السنة مع تفشي فيروس كورونا و ما يفرضه ذلك من سلوكيات جديدة للوقاية من العدوى.
فمثلا يُـلاحظُ يوميا داخل أسواق بيع المواشي اكتظاظ مهول للبائعين و المواطنين دون ارتداء الكمامات و دون تباعد اجتماعي و في غياب لشروط ووسائل النظافة، مع العلم أن أغلب مرتادي هذه الأسواق لن يشتروا الكبش إلا قبل يوم أو يومين من نهار العيد، و لكنهم يرتادون أربع أو خمس أسواق يوميا من أجل الاطلاع على الأسعار و “فحص” المواشي، و الجلوس مساءَ في مقهى الحي من أجل الحديث عن “بورصة الأكباش”.
كذلك، يلاحظ اكتظاظ و اختلاط كبير جدا بين المواطنين داخل الأسواق الشعبية المعروفة ببيع أدوات الذبح و التقطيع و الطهي و التوابل والملابس التقليدية إلى غير ذلك من المستلزمات المرتبطة بعادات وتقاليد هذه المناسبة، و هو ما من شأنه خلق بؤر وبائية في قادم الأيام يصعب السيطرة عليها نظرا لاستحالة ضبط جميع مرتادي هذه الأسواق.
لكن السؤال الذي يفرضه نفسه هنا هو لماذا هذا الإصرار الشديد على إقامة عيد الأضحى هذه السنة رغم الظروف الصحية المرتبطة بتفشي فيروس كورونا، و رغم الظروف الاقتصادية الصعبة لجل أفراد المجتمع المغربي، و رغـم وجود مبررات شرعية لإلغائه كما حدث بالنسبة لصلوات التراويح و وإغلاق المساجد و عدم إقامة صلاتي عيد الفطر و عيد الأضحى في المصليات الجماعية، حيث شدد المجلس الأعلى في فتوى له على أن “الحفاظ على الحياة من جميع المهالك مقدم شرعا على ما عداه من الأعمال بما في ذلك الاجتماع للنوافل وسنن العبادات”.
من ناحية أخرى، لازال الإعلام العمومي محتشما بخصوص دوره المهم في توعية المواطن بضرورة التعايش مع الوضع و تبني سلوكيات جديدة يومية رغم بعض “الكبسولات” التي بدأت تُذاع مؤخرا في التلفزة و محطات الراديو والتي تدعو للتعايش مع الفيروس و أخذ الحيطة والحذر، حيث لازال يسجل برامج يومية خاصة في أوقات الذروة للمساهمة في نشر التوعية و التذكير بأهمية وحساسية المرحلة في مقابل الإصرار على بت المسلسلات التركية و إعادة برمجة سهرات الغناء الشعبي و مسابقات العرسان، و هو ما يشكل استمرارا للدور الذي لعبه الإعلام خلال فترة الحجر الصحي العام حيث يتذكر الجميع كيف كان يُطل عبر التلفاز العمومي والإذاعات الخاصة بعض “الإعلاميـيـن” و يدعون المواطنين إلى الالتزام ببيوتهم والصبر لأن الأمر لا يعدو أن يكون عابرا و مؤقتا، بل إن أحد هؤلاء الإعلاميين في قناة عمومية خُصصت له “كبسولة” يومية تُبَتُ على مدار اليوم في التلفزة العمومية حيث كان يقول خلالها بالحرف أنه “ما بقا قد ما فات للعودة للحياة الطبيعية” حسبه هو، مما ساهم في تغليط الرأي العام و خلق اعتقاد خاطئ لدى الأغلبية الساحقة من المواطنين أن فيروس كورونا قد انتهى مع رفع الحجر الصحي و أصبح جزءا من الماضي الأمر الذي أدى إلى حدوث تراخي ظهر بشكل واضح من خلال عدم احترام وتطبيق الإجراءات الحاجزية les mesures barrières والتباعد الاجتماعي la distanciation sociale بين أفراد المجتمع، و هو ما يفسر استمرار الانتشار المتسارع للفيروس حسب الأرقام اليومية لوزارة الصحة، و الحال أنه كان من الأجدر توعية المواطنين بضرورة التكيف و التعايش مع الوضع الجديد le nouveau normal الذي ما فتئت منظمة الصحة العالمية تذكر بأنه سيستمر لمدة غير محددة، و هو ما كان سيجنب البلاد هذه الفوضى العارمة و الاختلاط في الأسواق والأحياء الشعبية والمقاهي و المطاعم ووسائل النقل العمومي و أمام الإدارات العمومية و المؤسسات الخاصة، لا سيما أن شرائح مهمة من المجتمع المغربي تتميز في مجملها بانعدام الوعي الجماعي الناتج عن تدهور منظومة التربية والتعليم و بروز التفاهة في أغلب الإعلام المرئي و السمعي بالإضافة لانتشار التفاهة في مواقع التواصل الاجتماعي، و دون إغفال العادات و التقاليد التي تساهـم في الاختلاط و الفضول والتجمعات.
إذن، وأمام هذا الوضع المقلق المتسم بالارتباك الحكومي في تدبير المرحلة و بتزايد حالات الإصابة التي تتطلب الخضوع للعناية المركزة والتنفس الاصطناعي مما تسبب في اكتظاظ بهذه الأقسام خاصة بطنجة و فاس و الدار البيضاء، و أمام ضعف المنظومة الصحية الوطنية رغم المجهودات المبذولة مؤخرا لتحسين العرض الصحي، و أمام الإنهاك الذي أصيبت به الأطر الصحية و التمريضية وكذا القوات العمومية بجميع أطيافها، و كل المتداخلين في منظومة مواجهة الجائحة والتصدي لها، و أمام انعدام الوعي الجماعي وكثرة تنقلات المواطنين من المدن التي تعرف انتشارا للوباء إلى جميع المناطق و القرى، و تنظيم المناسبات العائلية والطقوس المرتبطة بعيد الأضحى، فإن قادم الأيام ينذر بتفاقم الوضع الوبائي بالمغرب في ظل الإصرار على تحقيق معادلة مستحيلة هي الجمع بين ثالوث كورونا و عيد الأضحى و المجتمع المغربي بعاداته و تقاليده.